‘كم هي محدودة تلك التي نسميها إرادتنا. وكم هو هائل وغير محدود قدرنا’

هل القدر موجود.. وأي شكل يتخذ؟ دعنا ننظر في حياتنا لنرى ماذا تبقى من خططنا العزيزة على أنفسنا وما بقي من أحلام شبابنا؟ ألم نأت إلى هذا العالم بلا حول لنا ولا قوة في ذلك، ثم واجهنا تركيبتنا الشخصية، ومنحنا قدرا من الذكاء قل أو كثر، وملامح جذابة أو منفرة، وتركيبة بدنية رياضية أو قزمية، ونشأنا في قصر ملك أو كوخ شحاذ، في أوقات عصيبة أو زمن سلام، تحت سلطان طاغية جبار أو أمير نبيل، وفي ظروف جغرافية وتاريخية لم يتم استشارتنا بشأنها؟ كم هي محدودة تلك التي نسميها إرادتنا. وكم هو هائل وغير محدود قدرنا؟ 

كلما نمت معرفتنا عن العالم تزايد إدراكنا بأننا لا يمكن أن نكون أسياد مصائرنا. حتى مع افتراض أعظم تقدم ممكن للعلم، فإن مقدار ما سيكون تحت سيطرتنا من عوامل لا يساوي شيئا إذا قورن بالكم الهائل من العوامل الخارجة عن هذه السيطرة. إن حجم الإنسان لا يتناسب من حجم هذا الكون الفسيح، وعمر الإنسانية كلها ليس وحدة قياس لما يجري في هذا الكون من أحداث. وهذا هو سبب ما يعتري الإنسان من شعور دائم بالخطر، وما ينعكس على نفسيته من حالات التشاؤم والتمرد واليأس واللامبالاة، أو التسليم لله. 

إن العدالة الفردية لا يمكن أن تكون كافية في إطار هذا الوجود المحدود. إننا قد نتبع جميع القواعد والتعاليم الإسلامية التي من شأنها أن تمنحنا السعادة في الدارين (الدنيا والآخرة)، وقد نضيف إلى ذلك اتخاذ جميع الإجراءات الطبية والاجتماعية والأخلاقية، بسبب التشابك الرهيب للأقدار والرغبات والحوادث، فإننا سنظل نصاب في أجسامنا وفي نفوسنا بكثير من المعاناة. فما الذي يمكن أن يعزي أما فقدت ابنها الوحيد؟ وأي سلوى ممكنة لرجل أصيب في حادث فأصبح قعيدا معوقا؟ 

لا بد أن نكون على وعي بظروفنا الإنسانية، فنحن منغمسون في أوضاع معينة. وقد أستطيع أن أعمل على تغيير هذا الوضع، ولكن تبقى هناك أوضاع لا تقبل بطبيعتها التغيير. قد تتخذ هذه الأوضاع أشكالا مختلفة وقد تنحجب عنا قوتها الغالبة، ولكن تبقى أمامنا هذه الحقائق: إنني لا مفر من أن أموت، ولا بد أن أعاني، وأن أناضل، إنني ضحية الحظ، إنني أتعثر دون رغبة مني في مشاعر الذنب. 

من المؤكد أن واجب الإنسان هو أن يبذل جهده لتحسين كل شيء في هذا العالم بمقدوره أن يُحَسِّنه. ومع ذلك، فسيظل أطفال يموتون بطريقة مأساوية حتى في أكثر المجتمعات كمالا. والإنسان على أحسن الفروض قد يستطيع أن يقلل من كم المعاناة في هذا العالم. ومع ذلك سيبقى الظلم والألم مستمرين، ومهما كانا محدودين، فلن يتوقفا عن أن يكونا سببا للتجديف والانحراف. 

في التسليم لله يوجد شيء من كل حكمة إنسانية فيما عدا واحدة: تلك هي التفاؤل السطحي، فإن التسليم هو قصة المصير الإنساني ولذا فإن التشاؤم نافذ إليه، لأن كل مصير هو مصير تراجيدي مأساوي إذا نحن قمنا بتحليله إلى أعمق أعماقه. 

الاعتراف بالقدر، استجابة مثيرة للقضية الإنسانية الكبيرة التي تنطوي في جوهرها على المعاناة التي لا مرد لها.. إنه اعتراف بالحياة على ما هي عليه، وقرار واع بالتحمل والصمود والتجمل بالصبر. 

كنتيجة لاعتراف الإنسان بعجزه وشعوره بالخطر وعدم الأمن يجد أن التسليم لله في حد ذاته قوة جديدة وطمأنينة جديدة. إن الإيمان بالله والإيمان بعنايته يمنحنا الشعور بالأمن الذي لا يمكن تعويضه بأي شيء آخر. ولا يعني التسليم لله سلبية في موقف الإنسان كما يظن كثير من الناس المخطئين. في الحقيقة “كل السلالات البطولية كانوا من المؤمنين بالقدر”. إن طاعة الله تستبعد طاعة البشر والخضوع لهم. إنها صلة جديدة بين الإنسان وبين الله، ومن ثم بين الإنسان والإنسان. 

إنها أيضا حرية يكتسبها الإنسان بمواصلته الإيمان بقدره، ومواصلة الكدح والجهاد سمتان إنسانيتان معقولتان، وفيهما يتحقق الاعتدال والصفاء إذا نحن آمنا بأن النتيجة النهائية ليست بأيدينا، إنما علينا أن نسعى ونعمل، أما الباقي فبين يدي الله. 

فلكي ندرك حقيقة وضعنا في هذا العالم يعني أن نستسلم لله، وأن نتنفس السلام، وألا يحملنا الوهم على أن نبدد جهودنا في الإحاطة بكل شيء والتغلب عليه. علينا أن نتقبل المكان والزمان اللذين أحاطا بميلادنا، فالزمان والمكان قدر الله وإرادته. إن التسليم لله هو الطريقة الإنسانية الوحيدة للخروج بدون تمرد ولا قنوط ولا عدمية ولا انتحار. إنه شعور بطولي (لا شعور بطل)، بل شعور إنسان عادي قام بأداء واجبه وتقبل قدره. 

من كتاب الإسلام بين الشرق والغرب بقلم علي عزت بيجوفيتش.